ذهب "علي" مع العاصفة، ربما اختار ألطف العواصف التي تهب على لبنان لينتقل إلى مكان أفضل. ربما هذه العاصفة حضنته كما لم يحضنه أحد. فهو يبدو سئم من نظرات الشفقة و"اللاحسد" أو ربما لم يكترث لها البتة.
يتحسر البعض على ذهاب "علي" كأنه فقد عكازاً أو مقعداً. أنا بصراحة لم أكترث يوماً لعلي. معرفتي به بدأت منذ أواخر الثمانينات عندما كان يتردد إلى مسجد عائشة بكار. رواد المسجد وأهالي المنطقة وخاصة المنتميين إلى تيارات إسلامية اعتقدوا بأنه مخابرات سورية. فهو هاديء لا يتكلم ويتابع الجميع بنظراته، يقف ويقعد طوال اليوم أمام المسجد وأحيانا يدخل ويصلي وحيدا، لذا تجنبه الجميع.
لاحقا في مطلع التسعينات اعتقلته أحد الجهات الأمنية واختفى لفترة طويلة، وعندما عاد شاحبا وضعيفاً رفع الناس عنه شبهة أنه مخابرات سورية وألبسوه تهمة "موساد" ، فأهل المنطقة خلال الحرب اعتادوا على هكذا سيناريوهات، متشردون كانوا يشفقون عليهم ومع دخول الجيش الإسرائيلي إلى بيروت تبين بأنهم جواسيس. وأخبرني أحدهم مرة أن شباب المنطقة قاموا بمحاولة عنيفة لاستنطاقه أو معرفة أي شيء عنه ودون جدوى. لاحقا بدأت ألاحظ "علي" في الحمراء وجوارها، وكنت أقول بيني وبين نفسي أن هذا الموسادي ربما قطع الأمل من منطقتي وأهلها وشعر بانكشاف أمره، أوربما تغيرت مهمته. سافرت إلى الخليج وأثناء زياراتي الصيفية لبيروت لاحظت بأنه استوطن شارع بلس وما عاد يشغل بالي أبداً.
ما نشره البعض عن "علي" بأنه كان أستاذاً جامعياً قُتلت زوجته وابنته خلال الحرب ويعرف أكثر من لغة، هي قصة متشرد آخر كان في منطقتنا قبل علي ومات عام 1991. كان مصرياً مصاب بانفصام شخصية واضح، ويكلم نفسه على أساس أنه شخصيتين. كان يصاحب الكلاب المتشردة وبعدها يقتلها. وجدوه مثل "علي" جثةً بعد يوم عاصف في سيارة محروقة كان ينام فيها. لا أعلم كيف أصبحت قصة المصري هي قصة "علي" ؟ لكن أكيد أن ما أوصل "علي" إلى التشرد هي مأساة أخرى لا أحد يعرفها. مأساة سكنته ولم تخرج أبداً.
أود أن ألتقي بعلي، ربما فتشت عليه بعد الموت لأقول له: يا أخو الشليتة، بعصتنا وما طلعت موساد. طلعت مجرد إنسان ومش متلنا غنم. فيك تسامحني وتخبرني قصتك.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق