الرد على إدعاءات قناة الجديد في مسألة النشيد

مقالة الأب يوسف طنوس عميد كلية الموسيقى - جامعة الروح القدس الكسليك





النشيد الوطني اللبنانيّ مفخرة وطنيّة



لم أكن أودّ أن أعلّق على ما كُتِبَ وقيل بحقّ النشيد الوطني اللبناني وعلاقته بنشيد جمهورية الرّيف المغربيّة، ولا على ما أثير من تشكيك في مصداقيّة ملحّن النشيد وديع صبرا وفنّه، وما رافق ذلك من مَسّ برموز وطنيّة جامعة كانت بالأمس القريب من المسلّمات. ولكن مع كثرة التأويلات والإفتراضات والإستنتاجات المغلوطة، وغياب تداول المعلومات التاريخيّة والموسيقيّة الشافية، وإنصافًا لوديع صبرا، ولريادة النشيد الوطني اللبناني، من جهة، وجوابًا على تساؤلات اللبنانيين حول هذا الموضوع، وتعزيز إيمانهم بوطنهم وبرموزه، من جهة أخرى، وبعد هدوء عاصفة التصاريح والأقاويل، رأيت لزامًا عليّ أن أوضح بعض الأمور التي تتعلّق بهذا الموضوع.

أوّلاً، إنّ النشيد الوطني اللبناني هو من أقدم الأناشيد الوطنية العربية وأجملها. وقد كتب كلماته شاعر كبير هو رشيد نخله، ولحّنه موسيقيّ عظيم هو وديع صبرا. وهذه حقيقة لا ينبغي التشكيك فيها عند أدنى معلومة خاطئة أو إشاعة مغرضة. وقد نسخ البعض في الدول العربية النشيد الوطني اللبنانيّ وزنًا شعريًّا ولحنًا في أناشيد وضعوها على منواله. 
ثانيًا، إنّ شعراء المهجر هم أوّل من صاغوا الأناشيد في أشعارهم بهدف الخروج عن هيكل القصيدة التقليديّة والتجديد في الشعر العربي، مثل فوزي المعلوف في ملحمته "شمعة العذاب" ومطولته "على بساط الريح"، ونسيب عريضة في "على طريق إرم"، ونعمة قازان في "معلّقة الأرز"، وشفيق معلوف في "عبقر"، وغيرهم. ويُعتبر خليل مطران (1872-1949) ناظم أوّل نشيد وطنيّ وضع للحركة الوطنيّة في مصر بعد وفاة الزعيم مصطفى كامل، وقد وضعه (بحسب الدكتور جمال الدّين الرمادي: خليل مطران شاعر الأقطار العربية، دار المعارف، مصر، ص 73) في باريس سنة 1911. ويندرج النشيد الوطنيّ اللبناني في إطار الشعر التجديدي في الوطن العربي.
ثالثًا، إن ثورة الرّيف في المغرب التي قادها محمد بن عبد الكريم الخطابي، ما بين 1918 و 1926، كانت مقدّمة للحركة الوطنيّة في المغرب والتي بدأت مع صدور الظهير البربري في 16 أيار 1930، والتي رافقتها أناشيد أشادت، في مرحلة متأخّرة، بمجاهدي الرّيف كنموذج للبطولة والإقدام والتضحية. والجمهورية الإتّحاديّة لقبائل الرّيف تأسّست في 18 أيلول/سبتمبر 1921، عندما ثارت قبائل ريف شمال المغرب على الحماية الإسبانية معلنين استقلالهم، ولكنّها لم تُشكّل رسميًّا إلاّ في الأوّل من شباط/فبراير 1923. وقد حُلّت هذه الجمهوريّة على يد قوّة فرنسيّة إسبانيّة مشتركة في 27 أيّار/مايو 1926. وكانت اللغة الأمازيغيّة (bérbère) هي لغة جمهوريّة الرّيف التي لم تكن تعتمد اللغة العربيّة. بالتالي، وهنا بيت القصيد، فإنّ نشيد جمهوريّة الرّيف، الذي وضعه ابراهيم طوقان باللغة العربيّة، لا يعود إلى فترة قيام الجمهوريّة، بل إلى مرحلة لاحقة لها.  
ويذكر كتاب "الأناشيد  الوطنية المغربيّة ودورها في حركة التحرير"، لمؤلّفه الباحث الموسيقي المغربي عبد العزيز بن عبد الجليل (مطبوعات أكاديميّة المملكة المغربيّة، سلسلة "تراث"، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، 2005) بأنّ نشيد "يا مناط الأمل" من نظم عبدالله كنون، هو على نسق النشيد الوطني اللبناني لرشيد نخله، ونشيد "ثورة الرّيف" لابراهيم طوقان (ص 72)، ويضيف الأستاذ بن عبد الجليل بأنّ هذا الصنف "يقارب الأناشيد التي نظّم كلماتها شعراء مغاربة وأفرغوها في ألحان مقتبسة عن أناشيد مشرقيّة. ومن أمثلتها نشيد "يا مناط الأمل" للمرحوم الأستاذ عبدالله كنون، وقد "أفرغ في لحن النشيد الرسمي للبنان" (ص 77).
وفي معرض كلامه عن طبيعة سلالم الأناشيد الوطنيّة في البلدان العربيّة، يستعرض الأستاذ بن عبد الجليل في كتابه الآنف الذكر أناشيد لبنانيّة عدّة: "النشيد القومي اللبناني"، نظم رشيد نخلة، تلحين وديع صبرا، وقد لحّنه على مقام صول الكبير...( ص 132)، نشيد "كشاف هيّا" من نظم بشارة الخوري ولحن فليفل إخوان، على مقام لا بيمول الكبير، ونشيد "نحن الشباب" هو على مقام سي بيمول الكبير (ص 133). وفي استعراضه هذا الذي يركّز فيه على أهميّة اللحن كعنصر من عناصر بناء النشيد، يُشير الأستاذ بن عبد الجليل إلى أنّ نشيد "أرض الأجداد"، لحليم دمّوس (ديموس)، تداوله المغاربة تباعًا بألحان ثلاثة، أوّلها مأخوذ من أغنية فرنسيّة...، وثانيها لحن قصير النفس يتكرّر مع كلّ بيتين...، وثالثها انطلق من الجزائر وعم تداوله بالمغرب فأنسى اللحنين السابقين... (ص 143).
ويعطي الأستاذ بن عبد الجليل لحن النشيد الوطني اللبناني نموذجًا للألحان التي استُعملت في أناشيد أخرى، ومن بينها نشيد الرّيف، فيقول (ص 144):" ومن نماذج الأناشيد، التي انسحب عليها لحن موسيقي واحد، نشير إلى النشيد الرسمي للبنان الشقيق الذي لحّنه وديع صبرا، على مقام صول الكبير... فلقد تردّد لحنه مع كلمات ثلاثة أناشيد أخرى هي على التوالي :
1)   نشيد بطل الرّيف لابراهيم طوقان، ومطلعه:
في ثنايا العجاجْ             والتحام السيوفْ
2)   نشيد "يا مناط الأمل" لعبد الله كنون، وأوّله:
يا مناط الأملْ              يا رجال الغدِ
3)   نشيد "وحدة المغرب" لابراهيم الإلغي، وأوّله:
وحدة المغربِ              حزبها في فــلاحْ
فهي للمغربِ               الحرِّ أمضى سلاحْ
        ويضيف الأستاذ بن عبد الجليل في حاشية رقم 44 (ص 320) بأن لحن نشيد الرّيف "هو نفسه لحن النشيد اللبناني الرسمي. ومطلعه: كلّنا للوطن للعلى للعلم. وهو من وضع وديع صبرا. يستند الأستاذ بن عبد الجليل بذلك إلى ما ورد في ديوان ابراهيم طوقان – دار الشرق الجديد، ط 1-1955، ص 194، ليؤكّد أنّ نشيد الرّيف هو من لحن وديع صبرا. وهذا إثبات آخر لا بدّ من أن يُقنع من لا يزال الشكّ يخامر نفسه حيال هذا الموضوع. فإذا كان المغاربة أنفسُهم يعترفون بأنّ نشيد جمهوريّة الرّيف منسوخ قالبًا ولحنًا عن النشيد الوطني اللبناني، فهل يجوز أن يشكّك اللبنانيّون بما عليهم أن يفخروا به؟
وأخيرًا، في زمن الصعوبات لا بدّ من التمسّك بالمسلّمات، وعدم الإنجرار وراء الأقاويل التي تزعزع الإيمان بالوطن ومقوّماته. وحبذا لو ندقّق في المعلومات التي تصلنا، كأفراد ومؤسّسات، والتي من شأنها زرع بذور الشكّ في ما يجب أن نؤمن ونتمسّك به، قبل أن نعمل بدورنا على تداولها ونشرها.

                                                                الأب يوسف طنوس
                                                        باحث موسيقي وعميد كليّة الموسيقى
في جامعة الرّوح القدس في الكسليك





 مقابلة إذاعية مع إذاعة Voice of Van



الرد رقم 2: فيلم فيديو يعرض قريباً...




ليست هناك تعليقات: